شعبان هو اسم هذا الشهر الفضيل، وقد سمي بذلك لأن العرب كانوا يتشعبون فيه لطلب المياه، وقيل تشعبهم في الغارات، وقيل لأنه شَعَب أي ظهر بين شهري رجب ورمضان.
الصيام في شعبان :
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان... رواه البخار ، ومسلم، كان يصوم شعبان كله ، كان يصوم شعبان إلا قليلا، وقد رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره، ويشهد له ما في صحيح مسلم.
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما علمته - تعني النبي صلى الله عليه وسلم - صام شهرا كله إلا رمضان...عنها قالت: ما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا غير رمضان... أخرجه البخاري ومسلم، وكان ابن عباس يكره أن يصوم شهرا كاملا غير رمضان، قال ابن حجر رحمه الله : كان صيامه في شعبان تطوعا أكثر من صيامه فيما سواه وكان يصوم معظم شعبان.
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، فقال: ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم... رواه النسائي، أنظر صحيح الترغيب والترهيب، وفي رواية لأبي داود، قالت: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان. صححه الألباني أنظر صحيح سنن أبي داوُد.
قال ابن رجب رحمه الله: صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم، وأفضل التطوع ما كان قريب من رمضان قبله وبعده، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد عنه.
وقوله: (شعبان شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان).
يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان - الشهر الحرام وشهر الصيام - اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولا عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان لأن رجب شهر حرام، وليس كذلك.
وفي الحديث السابق إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه.
وفيه دليل على استحباب عِمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة ويقولون هي ساعة غفلة، ومثل هذا استحباب ذكر الله تعالى في السوق لأنه ذكْر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة، وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها:
أن يكون أخفى للعمل وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام فإنه سرّ بين العبد وربه، ولهذا قيل إنه ليس فيه رياء، وكان بعض السلف يصوم سنين عددا لا يعلم به أحد، فكان يخرج من بيته إلى السوق ومعه رغيفان فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته، وكان السلف يستحبون لمن صام أن يُظهر ما يخفي به صيامه، فعن ابن مسعود أنه قال: (إذا أصبحتم صياما فأصبِحوا مدَّهنين)، وقال قتادة: (يستحب للصائم أن يدَّهِن حتى تذهب عنه غبرة الصيام).
وكذلك فإن العمل الصالح في أوقات الغفلة أشق على النفوس، ومن أسباب أفضلية الأعمال مشقتها على النفوس لأن العمل إذا كثر المشاركون فيه سهُل، وإذا كثرت الغفلات شق ذلك على المتيقظين، وعند مسلم (رقم 2984) من حديث معقل بن يسار: (العبادة في الهرْج كالهجرة إلي).. (أي العبادة في زمن الفتنة؛ لأن الناس يتبعون أهواءهم فيكون المتمسك يقوم بعمل شاق).
وقد اختلف أهل العلم في أسباب كثرة صيامه -صلى الله عليه وسلم - في شعبان على عدة أقوال:
1- أنه كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عمل بنافلة أثبتها وإذا فاتته قضاها.
2- وقيل إن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان فكان يصوم لذلك، وهذا عكس ما ورد عن عائشة أنها تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان لشغلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم.
3- وقيل لأنه شهر يغفل الناس عنه: وهذا هو الأرجح لحديث أسامة السالف الذكر والذي فيه: (ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان) رواه النسائي، أنظر صحيح الترغيب والترهيب ص 425.
وكان إذا دخل شعبان وعليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله بالصوم قبل دخول رمضان - كما كان إذا فاته سنن الصلاة أو قيام الليل قضاه - فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض وكانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فيجب التنبه والتنبيه على أن من بقي عليه شيء من رمضان الماضي فيجب عليه صيامه قبل أن يدخل رمضان القادم ولا يجوز التأخير إلى ما بعد رمضان القادم إلا لضرورة (مثل العذر المستمر بين الرمضانين)، ومن قدر على القضاء قبل رمضان ولم يفعل فعليه مع القضاء بعده التوبة وإطعام مسكين عن كل يوم، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
وكذلك من فوائد صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده فيدخل رمضان بقوة ونشاط.
ولما كان شعبان كالمقدّمة لرمضان فإنه يكون فيه شيء مما يكون في رمضان من الصيام وقراءة القرآن والصدقة، وقال سلمة بن سهيل كان يقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن.
الصيام في آخر شعبان:
ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : (هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ قال لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين). وفي رواية البخاري : أظنه يعني رمضان وفي رواية لمسلم : (هل صمت من سرر شعبان شيئا؟) أخرجه البخاري ومسلم.
وقد اختلف في تفسير السرار، والمشهور أنه آخر الشهر، يقال سِرار الشهر بكسر السين وبفتحها وقيل إن الفتح أفصح، وسمي آخر الشهر سرار لاستسرار القمر فيه (أي لاختفائه)، فإن قال قائل قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين، إلا من كان يصوم صوما فليصمه) أخرجه البخاري ومسلم.
فكيف نجمع بين حديث الحثّ وحديث المنع فالجواب: قال كثير من العلماء وأكثر شراح الحديث: إن هذا الرجل الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن له عادة بصيامه، أو كان قد نذره فلذلك أمره بقضائه. وقيل في المسألة أقوال أخرى، وخلاصة القول أن صيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يصومه بنية الرمضانية احتياطا لرمضان ، فهذا محرم.
الثاني: أن يصام بنية النذر أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة ونحو ذلك، فجوّزه الجمهور.
الثالث: أن يصام بنية التطوع المطلق، فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر؛ منهم الحسن - وإن وافق صوما كان يصومه - ورخص فيه مالك ومن وافقه، وفرّق الشافعي والأوزاعي وأحمد وغيرهم بين أن يوافق عادة أو لا..
وبالجملة فحديث أبي هريرة - السالف الذكر - هو المعمول به عند كثير من العلماء، وأنه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة، ولا سبق منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلا بآخره. فإن قال قائل لماذا يُكره الصيام قبل رمضان مباشرة (لغير من له عادة سابقة بالصيام) فالجواب أنّ ذلك لمعانٍ منها:
أحدها: لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه، كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى، حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم.
ولهذا نهي عن صيام يوم الشك ،قال عمار من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، ويوم الشك: هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أم لا؟ وهو الذي أخبر برؤية هلاله من لم يقبل قوله، وأما يوم الغيم: فمن العلماء من جعله يوم شك ونهى عن صيامه، وهو قول الأكثرين.
المعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنفل، فإن جنس الفصل بين الفرائض والنوافل مشروع، ولهذا حرم صيام يوم العيد، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، وخصوصا سنة الفجر قبلها، فإنه يشرع الفصل بينها وبين الفريضة، ولهذا يشرع صلاتها بالبيت والاضطجاع بعدها.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي وقد أقيمت صلاة الفجر، فقال له: (آلصُّبح أربعا) رواه البخاري.
وربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل؛ لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام، وهذا خطأ وجهل ممن ظنه.
والله تعالى أعلـــــــــــم .
المصدر: موقع طريق الإسلام